شبهه

القصة تتحدث عن قائد من قواد عمر اسمه سلمة بن قيس أرسل رجلاً من قومه برسالة إلى أمير المؤمنين ، قال الرجل: "فاتبعته (أي عمر) فدخل دارًا ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفًا ، فنبذ إليَّ بإحداهما فجلست عليها ، وإذا بَهْوٌ في صُفة فيها بيت عليه سُتير ، فقال : يا أم كلثوم؛ غداءنا ، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عُرْضها ملح لم يُدَق فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا ؟

رد الشبهة

رية السفور والاختلاط في بيت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه 


إعداد - علي حشيش 



الحلقة الثانية والخمسون



نواصل في هذا التحذير الثالث والخمسين تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة دعاة سفور المرأة واختلاطها بالأجانب واتخذوا منها دليلاً لترويج هذه الفتنة التي كشرت عن أنيابها في هذه الأيام :


أولاً : متن القصة :


القصة تتحدث عن قائد من قواد عمر اسمه سلمة بن قيس أرسل رجلاً من قومه برسالة إلى أمير المؤمنين ، قال الرجل: "فاتبعته (أي عمر) فدخل دارًا ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفًا ، فنبذ إليَّ بإحداهما فجلست عليها ، وإذا بَهْوٌ في صُفة فيها بيت عليه سُتير ، فقال : يا أم كلثوم؛ غداءنا ، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عُرْضها ملح لم يُدَق فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا ؟
قالت : إني أسمع عندك حس رجل قال : نعم ولا أراه من أهل البلد .
قالت : لو أردتَّ أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته ، وكما كسا الزبير امرأته ، وكما كسا طلحة امرأته، قال : أو ما يكفيك أن يقال : أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، وامرأة أمير المؤمنين عمر؟ فقال : كُلّ فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا". اه .


ثانيًا : التخريج :


القصة أخرجها ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" (2-557، 558) وقال : حدثني عبد الله بن كثير العبدي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا أبو جناب ، قال : حدثنا أبو المحجَّل الرِّديني عن مخلد البكري وعلقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة أن أمير المؤمنين .. القصة.


ثالثًا : التحقيق :


إسناد القصة مسلسل بالعلل :
الأولى : في سند القصة أبو جناب الكلبي .
1- أورده الإمام ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (7-212، 59-2112) وقال : يحيى بن أبي حيَّة أبو جناب الكلبي كوفي ، واسم أبي حية حي ... وهو من جملة المتشيعين بالكوفة .
ثم نقل عن عمرو بن علي أنه قال : "أبو جناب الكوفي واسمه يحيى بن أبي حية : متروك الحديث".
2- أورده الإمام ابن حبان في كتاب "المجروحين" (3-111- 112) وقال :
أ- "يحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي: من أهل الكوفة ، وكان ممن يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء فالتزق به المناكير التي يرويها عن المشاهير ، فوهّاه يحيى بن سعيد القطان ، وحمل عليه أحمد بن حنبل حملاً شديدًا".
ب- ثم قال : أخبرنا مكحول قال : سمعت جعفر بن أبان قال : قلت ليحيى بن معين : أبو جناب ؟ قال : ليس بشيء .
3- وأورده الإمام البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ترجمة (295) وقال: "يحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي ، قال أبو نعيم: مات سنة خمسين ومائة ، وكان يحيى القطان يضعفه".
4- وأورده الإمام النسائي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (640) وقال: "يحيى بن أبي حية ، أبو جناب الكلبي ، ضعيف ، كوفي" .
5- قال ابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" (9-138-587) : سألت أبي عن أبي جناب الكلبي فقلت : هو أحب إليك أو يحيى البكاء ؟ فقال : لا هذا ولا هذا . قلت : فإذا لم يكن في الباب غيرهما أيهما أكتب ؟ قال : لا تكتب منه شيئًا ، ليس بالقوي.
قلت : هذه هي العلة الأولى .
الثانية في سند القصة أيضًا أبو المحجل الرديني لا يعرف .
الثالثة : وفي سند القصة أيضًا سليمان بن بُريدة لا تحتمل سنه الرواية عن عمر رضي الله عنه فإنه قد وُلد لثلاث سنين خلت من خلافة عمر ولم يذكر من حدثه بهذه القصة .
لذلك قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9-139) .
قال يزيد بن هارون : كان أبو جناب يحدثنا عن عطاء والضحاك وابن بريدة فإذا وقفنا نقول : سمعت من فلان هذا الحديث ؟ فيقول : لم أسمعه منه إنما أخذت من أصحابنا.
قلت : بهذه العلل تصبح القصة واهية لما في سندها من متروكين ومجهولين والانقطاع.
فائدة : "إن دعاة السفور والاختلاط إذا وجدوا هذه القصة في "تاريخ الطبري" فرحوا بها ويجادلون بعزوها لابن جرير الطبري وهم يحسبون أن في العزو ثبوتًا للقصة ولكن هيهات ففرق بين التخريج والتحقيق كما بينا آنفًا .
والطبري رحمه الله بين ذلك فقد صرح في مقدمة "التاريخ" (1-13) بأنه مجرد ناقل لما يسمعه من أخبار وحكايات يسندها إلى قائليها حيث قال : "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ، مما يستنكره قائله أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا ، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا".
رابعًا : قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حول هذه القصة :
قال الشيخ رحمه الله في كتابه "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (4-204- 205) : "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
فقد اطلعت على القصة المنقولة من "تاريخ ابن جرير الطبري" - رحمه الله - عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه: "فاتبعته فدخل دارًا ثم دخل حجرة ..." القصة. وهذه القصة باطلة رواية ودراية :
أما الرواية : فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء وبعضهم متهم بالكذب وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر ، وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية .
أما من حيث الدراية فمن وجوه :
1- شذوذها ومخالفتها لما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب .
2- مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ، ولا غيره من أهل العلم ، وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها .
3- ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها ، وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك للتشويه على سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم أو لمقاصد أخرى سيئة ، نسأل الله العافية .
وللمشاركة في بيان الحق وإبطال الباطل رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة ليزداد القراء علمًا ببطلان هذه القصة ، وأنها في غاية السقوط للوجوه السالف ذكرها وغيرها ، والله المسئول أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل وأن يعيذنا وسائر إخواننا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد" . اه.


خامسًا : هجوم على الحجاب الشرعي بالقصص الواهية وبأحاديث الإحرام :


قلت: هذه القصة الواهية من القصص التي اتخذها دعاة سفور المرأة واختلاطها بالأجانب دليلاً يهاجمون به المؤمنات في حجابهن الذي هو حجاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين واشتد الهجوم في هذه الأيام من بعض القنوات الفضائية والصحف القومية بنشر الأحاديث المكذوبة وتأويل الأحاديث الصحيحة .
وإن تعجب فعجب أن تنشر جريدة الوطن العربي في عددها (172) في الصفحة (16) بعنوان : "النقاب جريمة في حق الإسلام" ثم بعد ذلك تنشر تحت هذا العنوان فرية تدعى فيها أن هناك اثنا عشر دليلاً من القرآن والسنة على حرمة النقاب ثم تذكر في مقدمة هذه الأدلة حديثًا للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه : "لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين" وتدعى قائلة : "وفي هذا الحديث نص قاطع على تحريم النقاب" .
ونشرت جريدة الأخبار بتاريخ 4-10-2002 مقالاً للدكتور فلان بعنوان : "النقاب عادة وليس عبادة" ، حيث قال : "النقاب كان معروفًا لدى البدو في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأراد أن يحرر المرأة من هذا القيد ، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين" .
ثم يقول : "وبناءًا على هذا الأمر فقد أجمعت جميع المذاهب أن المرأة إذا غطت وجهها أثناء الحج أو العمرة يبطل حجها وإذا فعلت ذلك عن طريق السهو أو غير علم فعليها كفارة" .
ثم يقول : "وبديهي أن الهدف من هذا الأمر النبوي الكريم هو إظهار أن النقاب أمر مكروه في الدين فلا يحل للمرأة المسلمة أن تلبسه في هذه الأماكن المقدسة وهذه المناسبة الدينية العظيمة ، ولو كان النقاب مستحبًا كما يدعي البعض لكان الأمر بالعكس ولفرضه في هذا الموقف الجليل أكثر من غيره". اه.
قلت : انظر كيف أدى عدم العلم بفقه الحديث وأصوله إلى تمزيق شرعية الحجاب الشرعي للمؤمنات ، وطف الكيل حتى جعلوا الحجاب الشرعي جريمة في حق الإسلام وأن المؤمنات الطاهرات العفيفات أصبحن مجرمات يفعلن الحرام كما في قوله : "هذا الحديث نص قاطع على تحريم النقاب" .
وإن تعجب فعجب قوله عندما ضاع فقه الحديث من الدكتور ، جعل التي تغطي وجهها وهي محرمة حجها باطل .
وما لهم بذلك من علم، فهؤلاء هن الصحابيات والتابعيات في أفضل القرون وخير الناس علمًا وعملاً كن يغطين وجوههن وهن محرمات .
فقد أخرج الإمام مالك في "الموطأ" (1-240- تنوير ) كتاب الحج - باب "تخمير المحرم وجهه ، عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت :
"كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق" .
وهذا الحديث جمع شروط الصحة عند الشيخين بل هو على شرطهما .
وهذا الحديث العظيم حديث فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي زوج هشام بن عروة بن الزبير بن العوام روت عن جدتها أسماء بنت أبي بكر ، وعنها زوجها هشام بن عروة كما في "التهذيب" (12-471).
فسند حديث فاطمة بنت المنذر في متن "تخمير وجوه المحرمات من الصحابيات والتابعيات" هو مالك عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء فهذا السند بنسق رواية الشيخين وهو في مواضع وليس في موضع واحد.
وهذا هو البرهان :
فقد أورد الإمام المزي في "تحفة الأشراف" (11-253) : في "مسند أسماء بنت أبي بكر الصديق" مسند (860): (13) فاطمة بن المنذر عن جدتها أسماء (2) هشام بن عروة عن امرأته فاطمة عن أسماء فالحديث في موطأ مالك بنسق هذه الرواية عند الشيخين كما في "تحفة الأشراف" (ح15743، 15744، 15745، 15746، 15747، 15748، 15750) .
وبهذا التحقيق يتبين أن حديث فاطمة بنت المنذر وجدتها أسماء بنت أبي بكر في تخمير وجوه المحرمات سقناه بسند صحيح على شرط الشيخين بنسق رواية الشيخين في سبعة مواضع في صحيحهما .
ولقد دقَّقْنا في بحثنا هذا لأن حديث فاطمة بنت المنذر يدرأ الشبهات عن الحجاب الشرعي للمؤمنات ويبطل هذه الإفتراءات التي تبطل حج من تغطي وجهها في الإحرام.
وما أوصل دعاة السفور والاختلاط إلى هذا الحد من الإفتراءات إلا عدم الدراية بعلم أصول الحديث خاصة "علم مختلف الحديث".
ولقد قمت بفضل الله وحده بالتوفيق بين: حديث: "لا تنتقب المحرمة ..". وحديث : "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق" .
وقد قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3-475) عن ابن المنذر :
"الإجماع على أن المحرمة تسدل على وجهها الثوب سدلاً خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال" ، وليعلم الملبسون على الناس أن النهي للمحرمة عن لبس النقاب في الحج فيه إثبات ضمني للنقاب في غير الحج، لأن محظورات الإحرام تحل بعد الإحرام، كما أن وهو المهم أن منع لبس النقاب في الحج على صفة النقاب لم يمنع الإسدال لشيء من الثياب على الوجه ليس على صفة النقاب وهيئته، إذن فهناك فرق بين لبس النقاب على الوجه؛ وإسدال شيء على الوجه لستره عن الأجانب.
وإلى القارئ فقه الأئمة الأربعة في ستر المحرمة وجهها بالإسدال.
فقه المذاهب الأربعة:
في كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" (1-626 ط وزارة الأوقاف ) كتاب الحج - باب ما ينهى عن المحرم بعد الدخول في الإحرام .
الحنفية والشافعية قالوا : تستر المرأة وجهها عن الأجانب بإسدال شيء عليه بحيث لا يمسه . والحنابلة قالوا : للمرأة أن تستر وجهها لحاجة كمرور الأجانب بقربها ولا يضر التصاق الساتر بوجهها .
والمالكية قالوا : إذا قصدت المرأة بستر يديها أو وجهها التستر عن أعين الناس فلها ذلك وهي محرمة بشرط أن يكون الساتر لا غرز فيه ولا ربط .
فهذا هو فقه الحجاب الشرعي للصحابيات والتابعيات حتى وهُنَّ محرمات لتعلم أن قصة السفور والاختلاط في بيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المفتريات والمنكرات.
وأن الافتراء على الأئمة الأربعة أنهم منعوا أن تستر المرأة المحرمة وجهها حتى لا يبطل حجها، لن يثبت حجتهم أو يقوي فريتهم، فإذا كانوا يكذبون على أئمة المذاهب الأربعة ولا يأخذون بعلمهم ولا فقههم فإلى أي مذهب ينتمون، لا أرى إلا أنه مذهب الكيد والحقد والكذب والافتراء والحسد لأهل الإسلام، وأبشرهم أنهم يكيدون كيدا والله يكيد كيدا فمن سيكون شرًا مكانا وأضعف جندا؟، وأبشرهم أيضا أن كيدهم لا يزيد الناس إلا معرفة بالنقاب وارتداءً له وصدق القائل:
وإذا أراد الله نَشْرَ فضيلةٍ طُوِيَتْ
في الناسِ فيض لها لِسانَ حسود
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : مجلة التوحيد
__________________
السلام عليكم .....